الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{يَوْمِ الأحْزَابِ} مراد به، الجنس لا يومٌ معين بقرينة إضافته إلى جمعٍ أزمانُهم متباعدة.فالتقدير: مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإِيجاز، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل: والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب.والأحزاب الأمم لأن كل أمة حِزبٌ تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزبًا، وتقدم عند قوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون} في سورة [المؤمنين: 53].والدأْب: العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه ويكرره، وتقدم في قوله تعالى: {كدأب آل فرعون} في أول [آل عمران: 11].وانتصب {مِثْلَ دَأْببِ قَوْممِ نُوحٍ} على عطف البيان من {مِثلَ يَوْممِ الأحزابِ} ولما كان بيانًا له كان ما يضافان إليه متحدًا لا محالة فصار الأحزاب والدأب في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير: مثلَ يوممِ جزاء الأحزاب.مثلَ يوممِ جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي جزاء عملهم.ودأبُهم الذي اشتركوا فيه هو الاشراك بالله.وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح وعاد وثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهورًا، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيمًا لا يخفى على مجاوريهم.وجملة {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًَا لِلْعِبَادِ} معترضة، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاءً عادلًا من الله وهو جزاء الإشراك.والظلم يطلق على الشرك {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ويطلق على المعاملة بغير الحق، وقد جمع قوله: {وما الله يريد ظلمًا للعباد} نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المُشترك في معنييه.وكذلك فعل {يريد} يطلق بمعنى المشيئة كقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] ويطلق بمعنى المحبة كقوله: {ما أريد منهم من رزق} [الذاريات: 57]، فلما وقع فعل الإِرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإِرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يَظلِم عبادَه.وأول المعنيين في الإِرادة وفي الظلم أعلق بمقام الإِنذار، والمعنى الثاني تابع للأَول لأنه يدل على أن الله تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عَدْل، لأن التوعد بالعقاب على الشرك والظلممِ أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه، وصدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإِقامة العدل.وتقديم اسم {اللَّهُ} على الخبر الفعلي لإِفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه، وإذ كان المسند واقعًا في سياق النفي كان المعنى: قصر نفي إرادة الظلم على الله تعالى قصرَ قلب، أي الله لا يريد ظلمًا للعباد بل غيره يريدونه لهم وهم قادة الشرك وأيمتُه إذ يدعونهم إليه ويَزعمون أن الله أمرهم به قال تعالى: {وإذ فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28].هذا على المعنى الأول للظلم، وأما على المعنى الثاني فالمعنى: ما الله يريد أن يَظلم عبادَه ولكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أيمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [يونس: 44] وبظلمهم دعاتهم وأيمتهم كما قال تعالى: {وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101]، فلم يَخْرُج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله.{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)} أعقب تخويفَهم بعقاب الدنيا الذي حلّ مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذينَ مِن بعدهم بأنْ خَوَّفهم وأنذَرَهم عذاب الآخرة عاطفًا جملته على جملة عذاب الدنيا.وأَقْحَم بين حرف العطف والمعطوففِ نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفًا.و{يَوْمَ التَّنَادِي} هو يوم الحساب والحشر، سمي {يَوْمَ التَّنَادي} لأن الخلق يتنادون يومئذٍ: فَمِن مستشفع ومن متضرع ومن مسلِّم ومهنِّىءٍ ومن موبّخ ومن معتذر ومن آمر ومن معلن بالطاعة قال تعالى: {يوم يناديهم} [فصلت: 47]، {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44]، {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44]، {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50]، {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71]، {دعوا هنالك ثبورا} [الفرقان: 13]، {يوم يدعُ الداعِ إلى شيء نكر} [القمر: 6] ونحو ذلك.ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوممِ في هذا المقام ليُذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب {يا قوم} ناصحًا ومريدًا خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة، وتأهيلَهم لكل نداء سارّ فيه.وقرأ الجمهور {يَوْمَ التَّنَادِ} بدون ياء في الوصل والوقففِ وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنوّن لقصد الرعاية على الفواصل، كقول التاسعة من نساء حديث أم زرع: زَوجي رفيعُ العِماد، طويل النِجَاد، كثيرُ الرماد، قريبُ البيت من الناد فحذفت الياء من كلمة الناد وهي معرِفة.وقرأ ابن كثير {يوم التنادي بإثبات الياء على الأصل اعتبارًا بأن الفاصلة هي قوله فَمَا لَهُ مِن هَادٍ}.و{يَوْمَ تُوَلُّونَ} بدل من {يَوْمَ التَّنَادِ} والتولي: الرجوع، والإِدبارُ: أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هَربًا من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه.و{مدبرين} حال مؤكدة لعاملها وهو {تولون}.وجملة {مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ} في موضع الحال.والمعنى: حالةَ لا ينفعكم التولِّي.والعاصم: المانع والحافظ.و{مِنَ الله} متعلق ب {عاصم} و{من} المتعلقة به للابتداء، تقول: عصمه من الظالم، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم.وضَمن فعل عَصم معنى: أنقذَ وانتزعَ، ومعنى: {مِنَ الله} من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات.و{من} الداخلة على {عاصم} مزيدة لتأكيد النفي.وَأغنى الكلام على تعدية فعل: {أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَوممِ الأحْزَابِ} [غافر: 30] عن إعادته هنا.وجملة {وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} عطف على جملة {إنِّي أخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ} لتضمنها معنى: إني أرشدتكم إلى الحذر من يوم التنادي.وفي الكلام إيجاز بحذف جُمل تدل عليها الجملة المعطوفة.والتقدير: هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد، وفي هذه الجملة معنى التذييل.ومعنى إسناد الإِضلال والإِغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقًا غير قابل لمعاني الحق والصواب، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح.وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم، وآثر لهم هذا دون أن يقول: {ومن يهد الله فما له من مضل} [الزمر: 37] لأنه أحسّ منهم الإِعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته. اهـ.
|